فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} [16].
{فَأَعْرَضُوا} أي: عن الشكر: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} أي: سيل الأمر العرم، أي: الصَّعب والمطر الشديد- أو الوادي- أو السكر الذي يحبس الماء- أو هو البناء الرصين المبني بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها، وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء، فانهال عليهم تيار مائه، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم، واضطر من نجا منهم للنزوح عنها. كما قال تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ} أي: ثمر مرّ، أو بشع لا يؤكل: {وَأَثْلٍ} شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له: {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} وهو شجر النبق، أي: قلة لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا تبديل النعم بالنقم، لمن لم يشكر النعم، كما قال تعالى:

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [17].
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي: بشكر النعم، أو باتباع الرسل، وتكذيب الحق، والعدول إلى أهل الباطل، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة، والغبطة، والعيش الهني، والبلاد الآمنة، والقرى المتواصلة، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [18].
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي: بالزروع والثمار، وحسن العمران، وهي قرى بصنعاء، كما قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومالك، وغيرهم: {قُرًى ظَاهِرَةً} أي: متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي: جعلنا بين قراها مقادير متساوية، فمن سار من قرية صباحاً وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة، ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدو ونحوه: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي: لا تخافون في الليل أو النهار، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد، فلا ترون إلا الأمن، والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبي ونحوه، أو بلسان الحال، كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به، فالأمر للإباح. وفي: في، إشعار بشدة القرب، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى.

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [19].
{فَقَالُوا} أي: بلسان الحال، والميل إلى المهالك الشيطانية: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أي: فاستعدوا لضلالهم وكفرهم، لأن تُجعل أمكنتهم تعمل فيها المطي والرواحل، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه، وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة: {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي: حتى حل بهم ما حل: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: فرقناهم كل تفريق، حتى اتخذه الناس مثلاً مضروباً. يقولون: تفرقوا أيادي سبا، وذهبوا أيدي سبا. بألف مقصورة. قال الأزهري: العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع؛ لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز، وإن كان أصله مهموزاً، والذهاب معلوم، والأيادي جمع أيد، والأيدي جمع يد، وهي بمعنى الجارحة، وبمعنى النعمة، وبمعنى الطريق، وهو المراد. قال في التهذيب: قولهم ذهبوا أيدي سبا، أي: متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقاً على حدة. واليد الطريق. يقال: أخذ القوم يد بحر.. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة: ذهبوا أيدي سبا، أي: فرقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.
قال ابن مالك: إنه مركب تركيب خمسة عشر، مبنيًّا على السكون. وفي زهر الأكم، في الأمثال والحكم أن سبا كانت أخصب بلاد الله، كما قال تعالى: {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ، يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء، فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه، وكانت في بدء الأمر تركبها السيول، فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم، فاتخذوا سدّاً في بدء جريان الماء، ورصفوه بالحجارة والحديد، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات، فلما كفروا نعم الله تعالى، ورأو أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، سلط الله على سدهم فأرة فخرقته، وأرسل عليهم السيل فمزقهم كل ممزق، وأباد خضراءهم، وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان، وخزاعة ببطن مر، والأوس والخزرج بيثرب، وآل جفنة بأرض الشام، وآل جذيمة الأبرش بالعراق.
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس، أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير. وأما الشامية فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان». قال ابن كثير: وإسناده حسن إلا ابن لهيعة.
روى الإمام أحمد أيضاً عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم». فقاتل بمقبل قومك مدبرهم. فلما وليت دعاني فقال: «لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام». فقلت: يا رسول الله! أرأيت سبأ؟ أوادٍ هو، أو جبل، أو ما هو؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «لا، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة، فتيامن ستة، وتشاءم أربعة، تيامن الأزد، والأشعريون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار- الذين يقال لهم بجيلة- وخثعم. وتشاءم لخم، وحذام، وعاملة، وغسان».
قال ابن كثير: حديث حسن، وإن كان فيه أبو حباب الكلبي، وقد تكلموا فيه.
ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم عن تميم الداري، أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سبأ؟ فذكر مثله.
وقال ابن كثير: فقوي هذا الحديث وحسُن.
وذكر علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب، وكان يقال له الرائش؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً، وذكروا أنه بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم، وقال في ذلك شعراً:
سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مَلِكٌ عَظِيْمٌ ** نَبِيٌّ لَا يُرَخِّصُ فِي الْحَرَامِ

وَيَمْلِكُ بَعْدَهُ مِنْهُمْ مُلُوْكٌ ** يُدِيْنُوْهُ الْقِيَاْدَ بِكُلِّ رَاْمِيْ

وَيَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنَّا مُلُوْكٌ ** يَصِيْرُ الْمَلِكُ فِيْنَا بِانْقِسَامِ

وَيَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطَاْنِ نَبِيٌّ ** تَقِيٌّ مُتَحَنَّثٌ خَيْرُ الْأَنَامِ

يُسَمَّى أَحْمَداً يَاْ لَيْتَ أَنِّيْ ** أُعَمِّرُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِعَاْمِ

فَأَعْضُدْهُ وَأَحْبُوْهُ بِنَصْرِيْ ** بِكُلِّ مُدَجَّجٍ وَبِكُلِّ رَامِ

مَتَىْ يَظْهَرُ فَكُوْنُوْا نَاْصِرِيْهِ ** وَمَنْ يَلْقَهْ يُبَلِّغْهُ سَلَاْمِيْ

ذكر ذلك الهمداني في كتاب الإكليل. واختلفوا في قحطان. فقيل: إنه من سلالة إرم بن سام بن نوح. وقيل: من سلالة عابر وهو هود عليه السلام. وقيل: إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عُمَر بن عبد البر النمري في كتاب الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواه. قال ابن كثير: ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم في سبأ: «كان رجلاً من العرب» يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح. وعلى القول الثالث، كان من سلالة الخليل عليه السلام، وليس هذا بالمشهور عندهم. والله اعلم.
ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون فقال: «ارموا، بني إسماعيل! فإن أباكم كان رامياً». وأسلم قبيلة من الأنصار. والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن. من سبأ، نزلت يثرب، لما تفرقت، كما مر. ثم قال: ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «ولد له عشرة» أي: كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن، لا أنهم ولدوا من صلبه. بل منهم من بينه وبينه، الأبوان والثلاثة، والأقل والأكثر. كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: فيما ذكر من قصتهم، وما حل بهم من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام: {لَآيَاتٍ} أي: لعبراً عظيمة: {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام، والشكر على النعم، قال الأعشى من قصيدة:
فَفِيْ ذَاْكَ لِلْمُؤْتَسِيْ أُسْوَةٌ ** وَمَأْرِبُ عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ

رُخَاْمٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ ** إِذَاْ جَاْءَ مُوَارهُ لَمْ يَرِمْ

فَأَرْوَىْ الزُّرُوْعِ وَأَعْنَابَهَاْ ** عَلَىْ سَعَةٍ مَاْؤُهُمْ إِذْ قُسِمْ

فَصَاْرُوْا أَيَادِيَ مَاْ يَقْدِرُوْ ** نَ مِنْهُ عَلَىْ شُرْبٍ طِفْلٍ فُطِمْ

.تفسير الآيات (20- 21):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [20- 21].
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} قال الزمخشري: قرئ: {صدق} بالتشديد والتخفيف، ورفع لفظ {إبليس}، ونصب الظن. فمن شدد، فعلى: حقق عليهم ظنه، ووجده ظنه صادقاً، أي: صدّق بمعنى حقق مجازاً؛ لأنه ظن شيئاً فوقع فحققه. وقوله: أو وجده ظناً صادقاً. فإن العرب تقول صدّقك ظنك. والمعنى أن إبليس كان يسول له ظنه شيئاً فيهم، فلما وقع جعل كأنه صدقه. شهاب.
ومن خفف فعلى: صدق في ظنه، أو صدق يظن ظناً. نحو فعلته جهدك، أي: فظنه، منصوب على الظرفية بنزع الخافض، وأصله: في ظنه، أي: وجد ظنه مصيباً في الواقع، فصدق، حينئذ بمعنى أصاب، مجازاً. أو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر. كفعلته جهدك، أي: وأنت تجهد جهدك. فالمصدر وعامله في موقع الحال. شهاب.
وبنصب لفظ إبليس ورفع الظن، فمن شدد فعلى: وجد ظنه صادقاً. ومن خفف، فعلى: قال له ظنه الصدقَ حينَ خيله إغواؤهم. برفع: إغواؤهم، على الفاعلية، أو نصبه على الحذف والإيصال، وفاعليه وضمير الظن، أي: خيل له إغواءهم. شهاب. يقولون: صدقك ظنك.
وبالتخفيف ورفعهما، أي: على إبدال الظن من إبليس، بدل اشتمال. شهاب. على: صدق عليهم ظن إبليس. انتهى.
وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات، أو ببني آدم حينما رأى ما ركب فيهم من الشهوة والغضب.
{فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي: ما كان له عليهم من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء، إلا لغرض صحيح وحكمة بينة، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، وعلل التسليط بالعلم. والمراد ما تعلق به العلم. قاله الزمخشري. يعني أن العلم المستقبل المعلل به هنا، ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس. بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب. فالمعنى ما سلطناه عليهم إلا ليبرز من كمون الغيب ما علمناه، فتظهر الحكمة فيه بتحقق ما أردناه من الجزاء أو لازمه، وهو ظهور المعلوم.
ويجوز أن يكون المعنى: لنجزي على الإيمان وضده. كذا في العناية: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي: رقيب قائم على أحواله وأوامره.

.تفسير الآية رقم (22):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [22].
{قُلِ} أي: للمشركين، إظهاراً لبطلان ما هم عليه، وتبكيتاً لهم: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} أي: زعمتموهم آلهة: {مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي: من خير، وشر، ونفع، وضر: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: شركة، لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} أي: معين يعينه على تدبير خلقه، قال الزمخشري: يريد أنهم على هذه القصة من العجز، والبعد عن أحوال الربوبية. فكيف يصح أن يُدعوا كما يدعى، ويرجوا كما يرجى؟

.تفسير الآية رقم (23):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [23].
{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: من المستأهلين لمقام الشفاعة. كالنبيين والملائكة. وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بكلمة يتكلم بها رب العزة، في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك: {قَالُوا} أي: سائلاً بعضهم بعضاً: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} أي: قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي: ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.
قال ابن كثير: هذا أيضاً مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي. فسمع أهل السماوات كلامه، أرعدوا من الهيبة، حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله ابن مسعود رضي الله عنه، ومسروق، وغيرهما.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} ولأي شيء وقعت حتى غاية؟
قلت: بما فهم من هذا الكلام، من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص، ومثل هذه الحال دل عليه قوله عز وجل: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 37- 38]. أي: وإذا كانت الشفاعة لمن أذن له بهذا الحال، عظمة وسموّاً من ذي الجلال، فأنّى ينالها جماد لا يعقل، لاسيما وهو عدو للكبير المتعال، فتبين كذبهم فيهم أنهم شفعاء، وحرمانهم من مقامها، بأجلى بيان وأفصح مقال.
وفي الآية تأويل آخر، وهو أن معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي: عن قلوب المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا تنبهوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا. قال مجاهد: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي: كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن: أي: كشف عما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا عند الموت، أقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار. واختار ابن جرير القول الأول، وهو أن الضمير عائد إلى الملائكة.
قال ابن كثير: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه؛ لصحة الأحاديث فيه، والآثار، أي: ولورود ما يؤيده في آية أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وذلك في قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]، نعم، النظم الكريم لا يأبى ما ذكروه، إلا أن مراعاة الأشباه والنظائر هو العمدة في باب فهم التأويل، ما وجد إليها سبيل.